أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الاذكار.
وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة، مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في: "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف: من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة. ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن المذنبين مرضى القلوب: فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (١)؛ فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به.
وإن الله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [[يونس: ٥٧]]. ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢].
فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه.
وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته!
الوجه الثاني:
أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة، والشكوك والأوهام، والجهالات، وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن. وقد أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب، والقرطبي في التذكار:
«إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (٢).

(١) من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؟ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمًى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩، واللفظ له. ومسلم في المساقاة حديث ١٠٧. وابن ماجه في الفتن باب ١٤. والدارمي في البيوع باب ١. وقوله في الحديث: «الا وإن في الجسد مضغة» قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد، بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. والمضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها. قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب.
(٢) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (ج ٢ ص٢٤١ - حديث رقم ٣٩٢٤) من حديث عبد الله بن عمرو، ونسبه لابن شاهين في الترغيب في الذكر. وذكره أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال (٩٠٨٥) وابن حجر في لسان الميزان (٥٧٦/ ٦) وابن الجوزي في العلل المتناهية (٣٤٧/ ٢) وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٢٥٨/ ١).


الصفحة التالية
Icon