ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شراً لا من ذاته، بل من عمل صاحبه.
وهذا العالم الإنساني المكلف، هو الذي يتجلى الخير والشر في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقاً.
وإنما عيب عليه وقبح منه، لأنه قادر على تمييزه واجتنابه، ومكلف بذلك. وقد وضح له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وأوضح له أن الخير ما نفع، وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أوتي قوة التمييز لم يؤت قوة الاستعصام، ابتلاءً من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامداً متعمداً، هو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز.
والخير والشر لا يوزنان بميزان حسي يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تدق الفوارق بينهما حتى تخفى.
وفي هذه المواقف يجب الإلتجاء إلى الله ليرينا الخير خيراً، ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء.
وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح، تندفع ألسنتنا وتقول: ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين "ربّ" و"الفلق".
١ - فإن رب الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم، هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فترى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالما فقد تخفى عليه حقائق من المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
٢ - ومناسبة أخرى، وهي أن الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام، وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام: ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له، هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه، هو عين ما يضايقهم من ذلك الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر، لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيباً بديعاً لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في عرض الأذهان.
هذه هي الثلاثة:
الغاسق إذا وقب.
والنفاثات في العقد.
والحاسد إذا حسد.
و (الغاسق) الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلاً وعلى غرة.