فالنظرة التاريخية المجردة في هذه الآية وفيما ورد في موضوعها ترينا أن عاداً بلغت من القوة والعظمة مبلغاً لم تبلغه أمة من أمم الأرض في زمنها. حتى أن الله جل شأنه لم يتحدى قولهم: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ إلاّ بقوته الإلهية، التي تذعن كل مخلوق ولو كانت في أمم الأرض إذ ذاك أمة أقوى منهم... لكان الأبلغ أن يتحداهم بها.
وإن أمة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها.. لهي أمة معتدة بقوتها وعظمتها!!
ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عاداً كانت أشد الأمم قوة، وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلاّ بمؤهلات جنسية طبيعية للملك، وتعمير الأرض، وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية.
وإن القرآن لا ينكر عليهم هذه المؤهلات، وإنما ينكر عليهم لوازمها ولا ينكر عليهم القوة والعظمة، وإنما ينكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومحادة الله؛ بدليل قوله لهذه الأمة: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ [هود: ٥٢]. ؛ فهو يضمن لهم أنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات يزيد قوتهم تمكيناً وبقاء.
ومحال أن ينكر القرآن على الناس القوة وهو الداعي إليها والمنفر من الضعف، وإنما شرع القرآن بجنب الدعوة إلى القوة أن تكون للحق وللخير وللرحمة والعدل.
وكذلك قوله تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٢٨ - ١٣١].
فإن هذه الآية- زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدمناه- تكشف لنا نواحي من تاريخ هذه الأمة العربية، ومبلغ مدنيتها وتعميرها: فهي تدل على أنهم كانوا بصراء بعلم تخطيط المدن والأبنية، وهو علم لا يستحكم إلاّ باستحكام الحضارة في الأمة، ومأخذ هذا من قوله: ﴿بِكُلِّ رِيعٍ... ﴾.
والآية في قوله: ﴿آيَةً﴾ هي بناء شامخ، يدل على قوتهم، أو هي آية هادية للسائرين؛ وهي على كل حال بناء عظيم يدل على عظمتهم وقوتهم، وما زالت عظمة البناء تدل على عظمة الباني.
ولم ينكر عليهم نبيهم نفس البناء الذي هو مظهر القوة، وإنما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشامخ. فمحط الإنكار قوله: ﴿تَعْبَثُونَ﴾.
ولا شك أن كل بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة، فهو عبث ولهو باطل.
و"المصانع" يقول المفسرون: إنها مجاري المياه، أو هي القصور، وعلى القولين فهي دليل معرفتهم بفن التعمير علماً وعملاً، وبلوغهم فيه مبلغاً عظيماً، فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه.
ولكن ليت شعري، ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى (المصنع) اللفظي الاشتقاقي؟!