فهذا الترتيب والتقدير والتيسير، دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير لطيف خبير.
الليل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر. فيقال في القمر: "آية الليل".
والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هي الشمس، فيقال في الشمس: "آية النهار".
وبعدما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما، ذكر أظهر آيات كل واحد منهما وأضافها إليه. فقال تعالى: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ... ﴾.
وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار. وكيف؟! وما كان الليل والنهار إلاّ باعتبار إضاءة الشمس لجانب، وعدم إضاءتها لمقابله.
فليست الفاء في"فمحونا" للترتيب في الوجود، وإنما هي للترتيب في الذكر، وللترتيب في التعقل: فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل.
وقد اتفق الكاتبون على الآية- ممن رأينا- على أن المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد:
أ- فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، والإضافة في "آية الليل" و"آية النهار" للتبيين كإضافة العدد للمعدود.
أو يراد بها الشمس والقمر فيكون: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾، على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا: وجعلنا نيِّري الليل والنهار.
أو في الأخير مقدرا هكذا: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.
ب- وإما على تقريرنا المتقدم فإن لفظ "آيتن" صادق على الليل والنهار. ولفظ "آية الليل"، و"آية النهار"، صادق على الشمس والقمر.
وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة.
وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه. فالتقدير به أولى، ولذلك فسرنا الآية عليه.
﴿فَمَحَوْنَا﴾ المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار. فمحو "آيَةَ اللَّيْلِ" إزالة الضوء منها، وهذا يقتضي أنه كان فيها ضوء ثم أزيل؛ فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً، ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً.
وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس.
واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر- كالأرض- كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحرارة ثم برد، فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد.