لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية: ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وبرهاناً لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم، وتقدموا في العرفان!!
فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم إلاّ أفراداً قليلين من علماء الفلك. وإن حمو جرمه أولاً، وزواله بالبرودة ثانياً، ما عرف إلاّ في هذا العهد الأخير.
والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً نبي أمي، من أمة أمية، كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم؛ فلم يكن ليعلم هذا إلاّ بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها!!
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيَّ مُعْجِزَةً | فِي الجْاَهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ (١) |
﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾:
فقد وضعت كذلك من أول خلقها "مبصرة" يبصر بها. والإسناد مجازي كما نقول لسان متكلم، أي متكلّم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب.
والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار، ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلاّ في ضوئها، ولا ينتفعون بها في الظلام.
وإذا كان الضوء يكون من النار! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم؟!!
وكما أفادت الآية زوال نور القمر- بعد أن كان بمقتضى لفظة "فمحونا" ومدلولها لغة- فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب، وتومىء إلى أنه من الشمس، وذاك أننا نرى فيه نوراً، مع علمنا أن نوره قد أزيل؛ فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه.
وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان، ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور، فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته.
وقدم الليل وآيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء. والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات.
﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾:
ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخلق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه.
(١) البيت من بردة البوصيري [ص: ١٢١٣، ١٢٩٥].