فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه راجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلاً من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش، وأسباب الحياة، ووجوه المنافع.
وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية، وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات.
وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما، وسعتهما، ومسير نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء.
"والابتغاء": هو طلب الشيء بسعي إليه ومحبة فيه. ويسمي- تعالى- طلب أسباب الحياة ابتغاء، تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب.
كما يسمي- تعالى- المطلوب بالابتغاء فضلاً من الرب، وفضله من رحمته. ورحمته واسعة لا تضبطها حدود، ولا تحصرها الأعداد- تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه، ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه.
وليكونوا- إذا ضاق بهم مذهب- آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور.
وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية، لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم.
ويقول تعالى: ﴿من ربكم﴾ والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به، ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب، وما يقسمه لهم من رزق، ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحد على أحد بتعد أو حسد.
فهذه الكلمات القليلة الكثيرة، وهي: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة:
بالعمل مع الجد فيه، والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران.
وبالرضا والتسليم للمولى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير.
وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام.
ويذكر تعالى علم عدد السنين، المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات، فإن نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب إنتاجها.... إنما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان.
كما ذكر- تعالى- جنس الحساب تنبيهاً على لزومه لهذا الضبط، وجميع شؤون الحياة من علم وعمل؛ فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب.