ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. ويكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد. ولكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن؟ فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح.
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «التقوى ههنا»، ويشير إلى صدره ثلاث مرات (١). فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلاّ الله.
(والأوابون) في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾. هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى.
والأوبة في كلام العرب هي الرجوع، قال عبيد:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ | وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ |
فنستفيد من الآية الكريمة: سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإن تاب العبد، فذاك هو الواجب عليه، والمخلِّص له- بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع، والتعرض لمظان الإجابة وخصوصاً في سجود الصلاة، فقمين (٢) - إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له.
وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية، مصراً عليها، غير مشمر منها، ولا سائل من ربه - بصدق وعزم- التوبة منها، ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب فهو الداء العضال الذي لا دواء له.
وجاء لفظ "الأوابين" جمعاً لأواب، وهو فعّال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله. وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله: ذلك أن النفوس- بما
(١) جزء من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث رقم ٣٢) والترمذي في البر والصلة (باب ١٨) وأحمد في المسند (٢/ ٢٧٧، ٣٦٠) من حديث أبي هريرة. واخرجه أحمد في المسند (٣/ ١٣٥) من حديث أنس بن مالك. وتمام الحديث كما رواه مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره. التقوى ههنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».
(٢) قمين: جدير.
(٢) قمين: جدير.