معانيها في أنفسها وإنَّمَا ليُضم بعضها إلى بعض في عقد نَظيم يصوغه جوهريّ ماهر فيختلف معنى اللفظ باختلاف التركيب ويتغير بتغير السياق. والجرجاني بحق رائدٌ من رواد هذا الفن، فلا بد لفهم اللفظ عنده من دخوله في تركيب ما لمعرفة معناه، يقول الإمام السُّبكي: فكثيرا ما رأيت مَنْ يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها.
ثم إن الجملة وحدة عضوية، ترتبط الكلمة فيها كما ترتبط الأعضاء في الجسد في تنسيق دقيق وترابط عجيب. كل لفظ من فعل أو اسم أو ظرف أو حرف يؤدي وظيفته من المعنى القائم في النفس. كل لفظ يلون صورة المعنى، لا ينوب عنه صبْغ آخر، ولا يسمح في استبداله في تأدية الأثر النفسي الذي ابتغاه، أو ارتضاه أو قصد إليه، وما كل لفظ يشفع بشرح أحواله المحيطة به، فتضطر لمعرفته أن تلجأ إلى سياقه: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ)، فالسماع حين تعدى بالباء أدى معنى آخر: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ويشعرون حين يسمعون، ونحن أعلم بما يتأثرون به وتفصح عنه نجواهم. فلفظ السمع أدى وظيفته حين انتظم في سياقه وأفصح عن غرضه الذي تضمنه وهو: الإحساس والشعور والتأثر، وكلها تتعدى بالباء.
ثم لا بد لفهم المعنى من معرفة المقام، وهو العنصر الاجتماعي في الدلالة، وهو من أحدث ما وصل إليه علم اللغات الحديث، ويتلخص في


الصفحة التالية
Icon