مقولتين صغيرتين وقف عندهما علماء البلاغة منذ القديم وجعلوهما شعاراً لهم عند البحث عن المعنى: الأولى: لكل مقام مقال. والثانية: لكل كلمة مع صاحبتها مقام.
فالمقام: وهو العنصر الاجتماعي، يُعد من أهم عناصر المعنى، والعبارة الثانية تُلخص ظاهرة النظم أو التركيب وأثره في المعنى الدلالي الاجتماعي، وهو موضوع عناية الجرجاني في دارسته لعلم النحو. فهو نحوي قبل أن يكون بلاغياً، وعلم المعاني الذي وضع أصوله لم يكن إلا إحياء لروح المعنى والحس والتذوق في علم النحو، بعد أن طمس النحاة بتعليلاتهم وحججهم وضوابطهم العقلية من مقولات المنطق وعلم الكلام موضوعَ الإعراب فحولوه هدفا واستنفدوا الجهد بهذه الضوابط بدلا من تذوق اللغة والبحث عن أسرارها الجمالية. يقول ابن مالك في ألفيته: وما أُبيح افعلْ ودع ما لم يُبح.
فالإباحة محصورة ضمن قواعدهم المعيارية وضوابطهم الأصولية التي فرضوها، أما ما خرج عنها: فُيحفظ ولا يُقاس عليه. علم المعاني هذا هو قمة الدراسة النحوية، والذي عزله النحاة عن مجال اهتمامهم سهوا منهم، وتولاه البلاغيون عنهم. فالنظم وما يتصل به من بناء، وترتيب، وتعليق، وإثبات، ونفي، واستفهام، وتقديم، وتأخير، يعتبر من أكبر الجهود المبذولة في إيضاح المعنى الوظيفي في السياق أو التركيب. من ذلك ما حكاه سيبويه في قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ): فأهل الجفاء من العرب يقولون: ولم يكن كفوا له أحد، كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة. هذه الأحدية التي شغلت النحاة في تأخيرها عن اسمها وصلتها،


الصفحة التالية
Icon