الباء سببا للهزء والتكذيب، لأنه نقل عن سواه، بل الغرابة أن يسلك الزمخشري هذا المسلك الوعر فيقول؛ (يستمعون بالهزء) هكذا مبهوتا بلا لحظٍ، محشوبا بلا صنعة، كيف والسياق يفهمنا من المنطوق ما ليس منطوقا، فالظالمون منهم، وسَمُوه بالسحر، وليس في السحر هزء ولا سخرية، وأما سوى الظالمين فقدروه (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ولم يقل سخر وهزئ، ولكن غلبت عليهم شقوتهم حرصا على زعامتهم وما يستتبعها من مصالح. ولو كانوا ساخرين لما تحاجزوا عن سماعه وتعاهدوا مرات ومرات ثم يعودون. قال الأخنس بن شريق: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال يا أبا ثعلبة: واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم أتى أبا جهل: فقال: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسَي رِهان قالوا: مِنَّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ لقد حجزوا أنفسهم عن هذا القرآن الذي خلب قلوبهم وألبابَهم وهددهم في امتيازاتهم، وكسر كبرياءهم. أقول لهؤلاء: إن الذين لا يجرؤون على قول ما يعتقدون فهم جبناء، تعوزهم الثقة بأنفسهم.
أرأيت إلى هذه الباء وصلتها بالموقف (يَسْتَمِعُونَ بِهِ) كيف فتحت لنا بصائر؟! ما كانت لتَضَحَ لو قال: يستمعونه، مما استودعته فيها هذه اللغة الشريفة من أسرار الإتقان والصنعة، فإذا كان للباء كل هذا الشأن فلا بد أن يسافر الخاطر في صَيدها حتى يُكشف له عنها، ولو جاءت مع غير هذا الفعل وفي غير هذا السياق لعدمنا وجود هذه الدلالة فيها، فعلى الناظر في هذه الحروف أن يأخذ إلى أنحائها ومصارفها، ويتأتى لها ويلاطفها ولا يتعسّفَها، لتفتح عن كنوزها.