الثالث: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا إذا تولوا عن الهجرة في سبيله والآية تتحدث عن منافقين كما سلف، ومعلوم لكل من شمَّ رائحة العلم فضلاً عمن ذاقه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقتل المنافقين أو يأذن في قتلهم مع بشاعة ما صنعوا خشية أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
فبأيّ وجه من الوجوه وافقَ سببُ النزول سياقَ الآيات وطابق؟
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف في القوم الذي اجتووا المدينة فخرجوا منها فاختلف الصحابة فيهم فنزلت الآية فالحديث ضعيف كما تقدم فلا يحتج به على السببية.
ثم إن هؤلاء قد هاجروا إلى المدينة، فلا يبقى معنى لقوله: (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. ).
وعلى هذا فالأمر دائر بين ما ذكره مجاهد والضحاك لموافقته السياق القرآني للآيات وفي الآية الحقائق التالية:
١ - أن هؤلاء منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر لقوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وقوله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا).
٢ - أن هؤلاء مطالبون بالهجرة في سبيل الله لإثبات إيمانهم، فليسوا من منافقي المدينة في شيء لأنهم غير مطالبين بالهجرة، وسواءٌ كانت هجرتهم من مكة أو غيرها فالآية لم تُعيِّن شيئاً.
٣ - أن هؤلاء المنافقين إن لم يهاجروا في سبيل اللَّه إلى مدينة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاز أخذهم وقتلهم حيث وجدوا.
وما ذكره مجاهد والضحاك يوافق الحقائق السابقة وإن كنت إلى قول مجاهد أَمْيَل لأن اللَّه قال: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) والتعريف بالمنافقين للعهد الذهني أي المعهودون في أذهانكم، وهذا يوافق قول مجاهد: (حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا) فالصحابة يعرفونهم، بخلاف من ذكر الضحاك أنهم مقيمون في مكة.
فإن قال قائل: عجباً من قولك، كيف تأتي إلى حديث يرويه الشيخان نص على أن سبب نزول الآية كذا، ثم تقول ليس هو سببَ نزولها؟