وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل.
قال جماعة من العلماء: والدليل أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل ألبتَّة على ما زعموا وهم أهل اللسان ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء لأنه قال: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) ولم يقل: (ومَن تعبدون) وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرًا ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلاً إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل.
وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) هو عامة قريش.
والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر عيسى وسمعوا قول اللَّه تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)، قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
وعلى هذا القول فمعنى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه. اهـ بتصرف.
والظاهر - والله أعلم - أن المعنى الأول أصح وهو اختيار أكثر المفسرين، ويدل عليه سياق القرآن، بخلاف القول الثاني الذي اختاره الطبري فإنه لا دليل على أن المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد منهم أن يعبدوه كما عبد النصارى عيسى ابن مريم.
وسياق الآيات يدل على أن ضارب المثل بعيسى بعض المشركين لأن الله قال: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) إلى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ولو كان المثل هنا هو المذكور في قوله تعالى: