ذلك، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)، أي: شدة أمرهم، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم.
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا، لم يكفر عنهم الذنب، أعني: ذنب الكفر، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب الكفر والشرك، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦).
فكأنه يريد بقوله: (ذَلِكَ) أي: تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية، إنما كان سببها: أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)، وكان قولهم: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) تلقين إبليس؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشرًا مثلكم؟! وهذا كله عناد وخطأ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام؛ تقليدا منهم لبشر؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر؛ تقليدا له - أكثر وأعظم من تصديق البشر: أنه رسول من عند اللَّه - تعالى - عند قيام الدليل المعجز، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد اللَّه وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار، ولكنهم كانوا قوما سفهاء، فاتبعوا سفههم وعنادهم، واللَّه أعلم.
وكذلك قولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وكيف يكون سحرًا، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها؟! ولكنهم عاندوا، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
وقوله: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ).
أي: كفروا بالرسل (وَتَوَلَّوْا): أعرضوا عن طاعته، وطاعة رسوله.
وقوله: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية، والقول في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز؛ نحو قولك: اللَّه مستغن، فأما أن تبتدئ، فتقول: اللَّه مستغن، فيما فيه شك وريب، فإنه لا يجوز البداية به.


الصفحة التالية
Icon