أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا: أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها: أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: أرخى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، فيقدمون على الحلف؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة: الشاهد، أي: أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: وإن ستر على نفسه، شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ...) الآية.
فَإِنْ قِيلَ: إن الإنسان مذكر، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، ولم يقل " بصير "؟
فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، استثنى الذين آمنوا من قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ولا يستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة؛ فيكون قوله: (بَصِيرَةٌ) راجعا إلى الجماعة، واللَّه أعلم.
وجواب ثان قوله: (بَصِيرَةٌ) وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل، حتى لا يعزب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة؛ كقولك: فلان علامة ونسابة، وراوية للشعر، وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر


الصفحة التالية
Icon