بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح اللَّه تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن؛ لاحتمال ذلك.
ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك وهي قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به ثَمَّ بنقص؛ فيسلم من المؤاخذة؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر.
وجائز أن يكون العتاب؛ لمكان مارية، إن كانت قصة التحريم من أجلها؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أذن له بإمساك مارية، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق، إذ الأمة لا حظ لها في القسم؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة، ولكن لما كان لها فيه مطمع، وهو بالتحريم قطع طمعها، فقيل له: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) قضاء تلك الشهوة، أي: لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها اللَّه تعالى لها، فيكون في العتاب دعاء له إلى أن يعمل بأحد الوجهين:
أحدهما: وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق، واللَّه أعلم.
والمحنة الثانية علينا: ألا ننسب إلى أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجهًا يسلم عن تنقصهن فعلنا، وإلا أمسكنا عن ذكره؛ خشية التنقص، وترك التبجيل والتعظيم؛ ألا ترى إلى قول اللَّه تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهن إلا خيرًا، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم، وقال أيضًا: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول


الصفحة التالية
Icon