واللَّه أعلم.
ثم لا يخلو إما أن يكون حقه القصاص ثم له تركه بالدية؛ فهو إلزام بدل حق قِبَلَ آخر من غير رضاه، وذلك مما لم يعقل في شيء، أو كلاهما، فهو أيضًا كذلك، لا يكون أحدهما إلا باجتماعهما، أو أحدهما وهو مجهول؛ فالعفو عنه يبطل حقه، إذ العفو ترك. وقال: إن في أخذ الدية إحياء النفس التي أمر اللَّه بإحيائها، وفي الامتناع عن أداء الدية إليه والبذل له إذن بالقتل.
ومن قول الجميع: إن أحدا لو قال لآخر: اقتلني، أنه لا يعمل بإذنه. فإذا كان معنى الامتناع عن أداء الدية هو إذن بالقتل، لم يأذن له.
يقال له: أبعدت القياس والتشبيه؛ لأن فيما نحن فيه إذنًا بالقتل، وظهر الأمر به، وفيما ذكرت لم يظهر، حيث قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)، فأنى يشبه هذا بذلك ويقاس عليه؟ أو أن يقال: لو كان الأمر كما ذكرت لكان يجيء أن يكون الصلح على كل شيء ماله، وفيه تلف نفسه أن ليس له منعه.
ومن قول الجميع: إن له المنع وجائز وقوع الصلح على ما فيه تلف ماله. ثبت أن ما يقوم له وهم.
وبعد، فإن الذي ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل، لا تدبير الإلزام. ولو كان ذلك لازمًا، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك؛ وهذا كما يغني الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك، فمثله ديته، بمعنى أن في ذلك تلف نفس تلك قيمته، فمثله الأول.
وما روى في التخيير بين أخذ الدية، وما ذكر فهو - واللَّه أعلم - على بيان الحل والرخصة على ما قيل: إن من حكم التوراة القتل، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية، ومن حكم أهل الإنجيل العفو، لا يقتل بالقصاص، ولا تؤخذ الدية، فحكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على أهل القرآن: أن جعل لهم القتل مرة، والعفو ثانيا، وأخذ الدية تارة؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة. إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر. ولهذا ما نقول في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقوله في التخيير في الكفارة: إن ذلك إلى من عليه، لا إلى من يأخذ.
إذ الحق هاهنا من جانب واحد. فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر