على ما ذكر في آية أخرى: (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: كل متمرد في العناد والمكابرة، فهو مارد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المارد: هو المجاوز عن جنسه في عتوه وتمرده؛ ولذلك سمي الذي لا لحية له: أمرد؛ لخروجه ومجاوزة أجناسه ورجاله، والمارد بالفارسية: ستنبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على الشيطان أن من تولاه واتبعه أن يضله (وَيَهْدِيهِ) أي: يدعوه (إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، وهو ما قال في آية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، أي: يدعوه إلى ما به ضلاله وهلاكه.
وقوله: قيل: حكم.
وقيل: قضى.
و (كُتِبَ) يحتمل الإثبات، أي: أثبت في أم الكتاب: أن من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، وقد ذكر إضلال الشيطان في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ (٥) أي: خلقنا أصلكم من تراب، وخلقنا أولاده من نطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ...) الآية.
تأويله - واللَّه أعلم -: أن كيف تشكون في البعث وتنكرونه وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا ترابًا أو ماء في العاقبة، وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابًا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابًا؟
أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد، فلو لم يكن بعث - كما تزعمون - لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثًا؛ على ما أخبر: أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث، كقوله؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صيّر خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثًا، فعلى ذلك الأوّل.
أو أن يكون تأويله - واللَّه أعلم -: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ...) إلى آخر الآية، ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة - ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا، ولا معنى البشرية فيه،