أحدهما: أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك اللَّه خلقًا كثيرًا بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بضلالهم به - واللَّه أعلم - (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ): أنه فعل ذلك بهم، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هَؤُلَاءِ النظر في أمر أُولَئِكَ.
والثاني: قوله: (جِبِلًّا كَثِيرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: جموعًا كثيرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقًا كثيرًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أممًا كثيرة؛ وكله واحد، وأصله من قولك: جبلهم على كذا، أي: طبعهم، ويقرأ: (جُبلًّا) و (جِبِلًّا) برفع الجيم والتشديد وخفضها والنشديد.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجبلة والجبلة: الخلق.
وقوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا: ما هذا الذي نراه؟! فعند ذلك قيل لهم: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) أي: ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها، واللَّه أعلم.
وقوله: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ... (٦٥)
أي: نطبع على أفواههم، فلا يتكلمون (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
كأنهم - واللَّه أعلم - لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا؛ كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ...) الآية، وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ...) الآية، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان، ولكن للطف يجعل اللَّه ذلك في اللسان فينطق، فحيثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق