واعلم أن الشر الذي يكتبه الله على عباده ليس شرًّا محضا، بل هو مشوب بخير دائمًا. ففي نقل الرياسة من إسرائيل للعرب، شرٌّ على بني إسرائيل، ولكنه خير للعرب، وخير للناس أجمعين، لأن بني إسرائيل لا يصلحون لزعامة العالم - دينيا ودنيويا - في رسالة عامة كالتي كلف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم: قوم غلاة مستكبرون مغترُّون. فلو كُلف أحد منهم بمثل هذه الرسالة لكان ذلك نكبة على العالم.
وحسبك ما نعلمه من تاريخهم - في ماضيهم وحاضرهم - من الظلم والطغيان والجبروت!! فلما نقلت الرسالة منهم إلى العرب، وكلف بها سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المنعوت بقوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (١) - عَمَّ العالَمَ العدلُ والرحمة والبركة.
وكذلك شأن الله في كل بلاء كتبه، فإنه لحكمة إلهية، كشرب الدواء الكريه، والحجامة والفصد، وقطع العضو الذي يخشى من انتقال مرضه إلى سواه، ونحو ذلك من الأُمور المؤلمة، فإنها - مع كراهتها - تستعقب الصحة والعافية. وهي خير. كما أن الصبر عليها يورث حسن الجزاءِ. ثم إن فيها تمحيصا "لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" (٢).
ولا شك أن الشرَّ إذا استتبع خيرا كثيرا كان تقديره مصلحة وحكمة.
٢٧ - ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:
هذه الآية مقرِّرة لما قبلها من أن الملك لله: يعز من يشاءُ ويذل من يشاءُ، وأن بيده الخير، وأنه على كل شيء قدير. فإن من أَولج الليل في النهار والنهار في الليل، وأَخرج الحيَّ من الميت والميتَ من الحي، ورزق من شاء بغير حساب، لابد من أن يكون متصفا بالصفات الكريمة، التي اشتملت عليها الآية السابقة.
والليل لا يدخل في النهار، ولا النهار في الليل على الحقيقة. ولكنه مستعار لزيادة زمان الليل وقتما يقصر النهار، ولزيادة زمان النهار وقتما يقصر الليل.

(١) القلم من الآية: ٤.
(٢) الأحزاب من الآية: ٢٤.


الصفحة التالية
Icon