ثم أَعلمه الله بغيب آخر فقال:
(وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ):
الأصل في الكفالة أن تكون للوالد، فلا يقوم غيره بها إلا عند فقده، أو عند الضيق، كما كفل النبي ﷺ عليًّا. وكفل العباس جعفرًا، عن أبي طالب والدهما، لكثرة عياله وشدة الحال عليه. وخصام بني إسرائيل على كفالة مريم، لا يكون إلا لواحد من هذين السببين.
وقد دلت الآية: على أن بني إسرائيل تنازعوا: أيهم يكفل مريم ويقوم بتربيتها؟ ودلت الأخبار: على أن القراء منهم تنافسوا - مع زوج خالتها زكريا - في كفالتها. فكان زكريا يريدها، لأن خالتها معه، ولأنه كان رئيس الأحبار. ويرى أنه أحق بها لذلك.
وكان كل واحد من القراء يريدها، لأنها ابنة عالمهم. فاقترحوا حلًّا لهذه المشكلة أن يقترعوا. وكانت وسيلتهم إلى القرعة أقلامهم، كما قال القرآن الكريم.
واختلف في هذه الأقلام فقيل: إنها الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة. وقيل: هي سهام جعل منها سهم معين لمن يأخذه.
وطريقة الاقتراع لم يَرِدْ بها خبر صحيح. ولعلهم وضعوا الأقلام في كيس أو نحوه. فإن كانت أقلام الكتابة، كان إخراج أي قلم منها يدل على صاحبه، وعلى أنه هو الذي يكفل مريم. وإن كانت السهام، كان السهم المعين لمريم، إذا أخذه أي واحد منهم يكون هو الكفيل. وكانت هذه القرعة سبيلا إلى فوز زكريا عليه السلام بكفالتها.
وفي هذه الآية دليل على أن القرعة سبيل مشروع لتمييز الحقوق.
والاستهام (١) ورد في القرآن في موضعين: هذا الموضع، وقوله تعالى: "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" (٢).
وكان ﷺ "إذا أراد سَفرًا أقرع بين نسائه" (٣) وقال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يعْلَم النَّاس مَا فِي النِّداء والصَّفِّ الأَوَّل ثمَّ لم يجدوا إلَّا أن يستهموا عليه لاستهموا" (٤).
وإنباءُ القرآن بما وقع في كفالة مريم من نزاع وخصام، ولجوء المتنازعين إلى القرعة، دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك لا يُعلم إلا عن طريق الوحي.
(٢) الصافات: ١٤١.
(٣) رواه الشيخان.
(٤) رواه الشيخان.