وبما أن الولد عادة يُنسب إلى أبيه، فإضافة عيسى بالبنوة إلى أُمه، فيه إشعار لها - حين البشارة - بأنه سيكون بغير أب... قبل التصريح لها بذلك. وسيأتي بعد.
٤٦ - ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
وبشرتها الملائكة أيضا: بأن ولدها عيسى عليه السلام، سيكون ذا شأن عظيم، وذلك أنه يكلم الناس وهو طفل يلازم فراش الطفولة، مثلما يكلمهم وهو رجل ذو جلال ووقات. فكلامه في الحالتين، كلام رصين، مفيد نافع، ينفي الريب ويزيل الشكوك، ويحق الحق.
ومن كلامه في طفولته. أنه قال لقومه، حين أشارت أُمه إليه ليدافع عن عرضها: "إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نِبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (١). وذلك حين جاءَت به قومها تحمله، بعد أن وضعته فلما رأَوْا ذلك: "قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" (٢).
أما كلامه في كهولته، فهو كلام الوحي والرسالة.
وكما بَشَّرتها الملائكة بوجاهة ولدها في الدنيا والآخرة، وأنه سيكلم الناس في المهد وكهلا، بَشَّرتها أيضا: بأنه سيكون في عداد الكاملين في الصلاح والتقوى.
٤٧ - ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾:
قالت السيدة مريم - متعجبة من تبشيرها بالولد وهي غير متزوجة - يا إلهي. مِنْ أين يكون لي ولد ولم يتصل بي بشر، والعادة جارية على خلاف ذلك؟ قال الله تعالى - بلسان الملائكة وتبليغهم، ردًّا على استغرابها - الله يفعل ما يشاءُ، ولو خالف القياس، بدون معاناة ولا صعوبة.
ولا يحتاج تحقيق المراد إلى قوله تعالى (كُنْ) بل يكفي أن يريده الله، فيتحقق في الحين الذي أراده سبحانه فيه. والأمر بكُن محمول - عند الأكثرين - على أنه تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده: بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به، من غير امتناع ولا توقف.
وأجاز بعضهم: أن يكون ذلك على الحقيقة، بأن يتعلق كلام الله النفسي: الذي هو بمعنى: كن، على ما أراد الله تكوينه، فيكون ويحدث.
(٢) مريم: ٢٧، ٢٨.