والمعنى: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وهم يهود بني النضير. أَخرجهم من ديارهم بالمدينة لأَول الحشر بمعنى عند أول إِخراج لهم، والحشر: إِخراج الجماعة من مقرهم وإِزعاجهم عنه إِلي الحرب وغيرها، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاءٌ قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إِلي الشام وغيرها، وآخر حشرهم بإِجلاءِ عمر - رضي الله عنه - إيَّاهم من خيبر إِلي الشام، وقيل: آخر حشرهم يوم القيامة.
ومشروعية الإِجلاءِ كانت في ابتداءِ الإِسلام، أَما الآن كما يقول الآلوسي فقد نسخت فلا يجوز إِلاَّ القتل أو السبي أو ضرب الجزية.
وكان من شأنكم أيها المسلمون أَنكم (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لشدة بأسهم، ومنعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم كما كان من شأنهم أنهم ظنوا أَن حصونهم مانعتهم من أمر الله تعالى: وكان مقتضي الظاهر أن يقال لمقابلة ما ظننتم أن يخرجوا، أن يقال: وظنوا ألاَّ يخرجوا ولكن عدل إِلي ما في النظم الجليل للإِشعار بأَن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتْي بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه بتقديم الخبر وهو (مَانِعَتُهُمْ) على المبتدأ وهو (حُصُونُهُمْ) للدلالة على الاختصاص والتوكيد فكأَنه لا حصن أمنع من حصونهم ليكون مانعًا من الوصول إِليهم (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَي: نزل بهم أَمر الله وقدره المقدور لهم من حيث لم يتوقعوه ولم يخطر لهم على بال وهو قتل رئيسهم كعب بن الأَشراف فإِنه ممَّا أَضعف قوتهم، وفل شوكتهم، وسلب قلوبهم الأَمْنَ والاطمئنانَ وألبسهم أردية الخضوع والاستكانة (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ) بإِلقاءِ الخوف الشديد فيها بقوة، أو من مكان بعيد (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر تقديره: فما حالهم بعد قذف الرعب فيها أَو معه؟ فأُجيب بالجملة.
والمعنى: يخربون بيوتهم من باطنها بأيديهم ليسدوا بأَخشابِهَا وأَحجارها أَفواه الأَزقة تحصينًا لها وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المسلمين والانتفاع بها بعد جلائهم عنها فيزيدهم ذلك ندمًا وحسرة، ولينقلوا ما فيها من جيد الخشب والساج معهم، كما كانوا يخربون تلك