والمعنى: ربِّ لا تترك على الأَرض من الكافرين أَحدًا يسكن دارًا، أَو لا تترك منهم من يدور ويتحرك على الأَرض لأَنهم استحقوا الهلاك بما اقترفوا من آثام وبما استمسكوا به من كفر وطغيان، ويراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إِلى الإِيمان والطاعة فلم يجيبوا.
٢٧ - ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾:
أَي: إِنك إِن تترك أَحدا منهم يضلوا عبادك عن طريق الحق، ولعل المراد بهم من آمن به - عليه السلام - وبإِضلالهم إِياهم: ردهم إِلى الكفر بنوع من الخداع والمكر، أَو المراد بهم من ولد من المؤمنين، وبإِضلالهم إِياهم: صدهم عن الإِيمان، أَو من ولد من الكافرين ولم يبلغ حد التكليف، فكانوا يحولون بينهم وبين الإِيمان بغرس العدواة والبغض في قلوبهم لنوح - عليه السلام - وفي بعض الأَخبار: أَن الرجل منهم كان يأتي بابنه إِلى نوح - عليه السلام - ويقول: احذر هذا فإِنه كذاب، وأَبي أَوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأَ الصغير على ذلك. قيل: ومن هنا قال - عليه السلام -: (وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) أَي: من سيفجر بعمله ويكفر بقلبه، فوصفهم بما يصيرون إِليه من الفجور والكفر لاستحكام علمه بما يكون منهم، ومن أَعقابهم بعد ما جربهم واستقرأَ أَحوالهم أَلف سنة إِلاَّ خمسين عامًا، ومثله قوله - عليه السلام -: (إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ)، وقيل: أَراد بقوله: (وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) أَي: من طبع وجُبل على الكفر والفجور، وقد علم ذلك بوحي كقوله - سبحانه -: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١) وكأَنَّ قوله: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ... ) الآية. اعتذار منه - عليه السلام - ممَّا عسى يرد عليه من أَن الدعاءَ عليهم بالاستئصال مع احتمال أَن يكون من ذريتهم من يؤْمن، وذلك ممَّا لا يليق بالأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام.
وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وغيرهم أَنه - عليه السلام - ما دعا عليهم إِلا بعد أَن أَخرج الله كل مؤْمن من الأَصلاب وأَعقم أَرحام النساء، وقد استجاب الله دعاءَه، فأَهلك

(١) سورة هود، من الآية: ٣٦.


الصفحة التالية
Icon