فالجواب: أَن سؤال المكلفين من الأُمم - هو سؤَال تقرير وتوبيخ، وسؤال المرسلين هو سؤَال استشهاد وتشريف لرسله. مع تمام علمه بما يسأَلهم عنه، كما أنه تعالى لا يريد أَن ينزل بهم عقابه، لمجرد ما علمه عنهم، حتى يقرّوا به هم على أَنفسهم.
فإن قيل: كيف نوفّق بين ما هنا، وبين قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾؟ (١).
فالجواب أن السؤَال المثبت هنا، يكون في موقف الحساب، والمنفى في سورة الرحمن - يكون في موقف العقاب.
ولعل الظاهر من الآية أن سؤَال كلٍّ من الرسل وَمَنْ أُرسِلوا إِليهم، هو سؤَال خاص بتبليغ المرسلين إِياهم، وما نتج عنه من كفر أُممهم أو إِيمانهم بهم.
وهذا لا يمنع أَن الناس يُسألون - أَيضا - عن جميع أَعمالهم، كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (٢) وقوله صلى الله عليه وسلم:

"كُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّ رَاع مسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (٣) " الحديث.. إِلى غير ذلك من الأَدلة.
والسؤَال عن ذلك كله سؤَال تقرير وإِقامة حجة، لا سؤال استعلام...
ويبدو أَن إِخبار الله تعالى الأُمم عن أعمالها، يكون - بتسليمهم - فرادى - كتب أَعمالهم التي تنطق عليهم أَولهم. أَو بإِخبار الملائكة لهم، والله تعالى أَعلم.
٨ - ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾:
المراد من الموازين، الأعمال. والموازين جمع موزون، أَي مقدّر، والمراد من الوزن الحق، التقدير والقضاء العادل - كما قاله مجاهد، والأَعمش، والضحاك. واختاره كثير من المتأخرين.
واستعمال الوزن بمعنى القضاءِ والحكم والتقدير، شائع - لغة وعرفا - بطريق الكناية.. وممّن ذهب إِلى ذلك المعتزلة.
وحُجَّة أَصحاب هذا الرأى: أن الأعمال أَعراض تفنى. وعلى فرض بقائها، لا تقبل الوزن بالميزان المعروف، الذي لا توزن به إِلا الجواهر والأعيان.
وهذا هو رأْى المحققين.
(١) سورة الرحمن، الآية: ٣٩
(٢) سورة التكاثر، الآية: ٨
(٣) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.


الصفحة التالية
Icon