لو فعلتم ما أَمِنْتُم أَن يحل على حىٍّ من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه، ثم يسير بهم إِليكم، فيطؤكم بهم في بلادكم، فيأْخذ أَمركم منكم، ثم يفعل بكم ما أَراد، فَكِّروا في رأى آخر، فقال أَبو جهل: أَرى أَن نأْخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدًا، نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى سيفا صارما، ثم يعمدون إِليه، فيضربونه بسيوفهم ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإِنهم إِن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فرضوا عنا بالعقل (١) فعقلناه لهم فقال قائل: هذا هو الرأى؛ فوافقوا عليه، وتفرَّقوا على ذلك.
فأَتى جبريل رسول الله - ﷺ -، فقال: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة (٢) من الليل، اجتمعوا على داره يرصدونه متى ينام؟ فيثبون عليه، فلما رأَى رسول الله - ﷺ - مكانهم، قال لعلىٍّ - كرم الله وجهه -: ثم على فراشى وتَسَجَّ ببردى (٣) فإِنه لن يخلص إِليك شيء تكرهه منهم وكان الرسول إِذا نام ينام في برده هذا - انتهى: من ابن إِسحاق بتصرف.
والمعنى:
واذكر يا محمَّد حين يمكر بك الذين كفروا من مشركى مكة ويُبِيَّتُون نية الشرّ نحوك ليجعلوك حبيسا في محبس يعدونه لك ويقيِّدونك فيه بالحديد، حتى لا يتصل بك أَحد ممن تدعوهم إِلى الإِسلام، أَو يقتلوك بسيوفهم على أَيدى شبان أَقوياء أَنسباءَ منهم، فيتفرَّق دمك في القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أَن ينتقموا لك منهم، أَو يخرجوك من مكة، ويمنعوك بذلك من الاتصال بأَهلها لدعوتهم إِلى الإِسلام، ويحرموك بهذا الإِبعاد من وطنك ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾:
المكر: تبييت نية الشر مع قصد الضرر بالخصم، فإِذا استعملت هذه الكلمة في جانب الله فالمقصود بها المجازاة على المكر كما هنا؛ لأَنه - تعالى - لا يبيِّت نية الشرّ لعباده، ويحب أَن يتوبوا فيرضى عنهم ويغفر لهم.
(٢) العتمة: ثلث الليل الأول.
(٣) أَي تغط ببردى، والبرد: ثوب مخطط.