واختلف في المراد من عرش الله الذي كان على الماء، فمن العلماء من يفهمه على أَنه جسم كونى عظيم. خلقه الله أول ما خلق، وجعله مصدر أوامره في الكون الذي شاءَ إنشاءَه بعده، والله يعلم مادته وصورته، ومعنى كون عرشه تعالى على الماء على هذا أنه فوقه، وهذا لا يلزم منه أنه فوقه مباشرة بحيث يكون مرتكزا عليه. فأَنت تقول: السحاب على الأرض أو فوق الأرض، مع أنه ليس مباشرا بالعلو والفوقية لها، بل بينهما فراغ.
قال الشيخ رشيد رضا بعد ما نقلناه عنه سابقا في شرح الآية: فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فينزل إليه منه أَمر التدبير والتكوين هو الماء الذي هو الأَصل لجميع الأَحياء؛ ثم قال: والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء، كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل - اهـ من ص ١٦جـ ١٢ طبعة الشعب.
ومن العلماء من ذهب إلى أن العرش كناية عن الملك والسلطان وَرَمزٌ له، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ - على هذا الرأْى - وكان سلطانه على الماء ليخلق منه ما يريد خلقه من السموات والأَرض، وقد تقدم الكلام في سورة الأَعراف - الآية ٤٥ - على قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فارجع إِليه لتعرف تفصيلا أكثر لما قاله العلماء في معنى العرش والله تعالى أعلم.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾: أي وهو الذي خلق السموات والأرض، وكان سلطانه على الماء في خلق ما يريد، وسخر لكم ما في السموات والأرض ليمتحنكم، فيظهر أَيكم أحسن عملا من سواه، فيجازيكم على عملكم لا ما علمه أزلا بكم. فإِن العمل حجة على صاحبه، ويفهم من ذلك أن الله تعالى خلق الكون ليعبده العقلاءُ من خلقه فيه، فإِنه سبحانه ما خلقهم إلا ليعبدوه كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (١).
وإنما جعل الله ذلك غاية لخلقه السموات والأرض، لأَنه تعالى زود عباده بالعقل والاستعداد للنظر في الآيات الكونية التي بثها سبحانه في أرجاءِ السموات والأرض، وجعلها مصدرا

(١) سورة الذاريات، من الآيتين: ٥٨، ٥٦


الصفحة التالية
Icon