(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ): أي فبأي أُعجوبة تبشرونني؟! إن البشارة بما لم تجربه العادة! أمر يدعو إلى العجب.
٥٥ - ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥)﴾:
أي قالت الملائكة مجيبين إبراهيم عليه السلام: بشرناك بالأمر المحقق الثابت الذي لا ريب فيه ولا لبس، فلا تكن من البائسين من خرق العادة لك؛ فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين: فكيف لا يخلقه من شيخ فان وعجوز عاقر؟ وكان تعجبه عليه السلام مما بشر به لمخالفته للعادة لا لأن الله تعالى لا يقدر على مثله فإنه يعلم من قدرة الله تعالى ما هو أعظم من ذلك؛ ولهذا قالت الملائكة له: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾: ولم يقولوا له: فلا تكن من الممترين أو الشاكين. ولهذا أيضًا:
٥٦ - ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦)﴾:
والاستفهام هنا إنكارى معناه النفي، أى لا ييئس من رحمة ربه إلا الخاطئون المنصرفون عن طريق الحق والصواب والمعرفة، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى ولا كمال علمه وقدرته.
ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه، وبراءته منه على أبلغ وجه وأكمله، أى ليس بي قنوط من رحمة ربي جل وعلا، وإنما الذى قلته، لبيان منافاة حالي وكبر سني لإنجاب الذرية عادة، وفي تعرضه عليه السلام لوصف الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.
ثم لم تكن هذه المحادثة بين الملائكة وإبراهيم خاصة؛ فقد اشتركت فيها امرأته أيضًا إذ قالت للملائكة ما حكى الله عنها في سورة هود: ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)﴾ (١). ولم تُذكر محادثتهم مع امرأته هنا اكْتِفاءً بذكرها فى سورة هود، كما لم تذكر مع إبراهيم هناك اكتفاء بذكرها هنا. والكتاب العزيز -كما أسلفنا- يكمِّل بعضه بعضا، ويفسِّر بعضه بعضا، ويصدِّق بعضه بعضا، دون تناقض أو اختلاف.
وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (٢).
(٢) النساء: من الآية ٨٢.