ويظهر ضعفه أَمام سامعيه، فقال له: إِن كنت رسولًا يا موسى فأَخبرْنى: ما حال أهل القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث مفصلة؟ ولما كان موسى عليه السلام خالى الذهن عنها حين سؤاله، أَجابه بما حكاه الله بقوله:
٥٢ - ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾:
أي قال موسى: - ردًّا على فرعون -، علم أَحوال القرون الماضية يختص به ربِّى الذي أرسلنى وما أنا إلا عبد له تعالى، فلا علم لى إلا بما أَخبرنى من شئون الرسالة، وقد بلغ من علم الله أَنه تعالى لا يضل ولا يغيب عنه شيء في الوجود، فلا يفوته علم شيءٍ منه ابتداءً، ولا ينسى معلومًا دخل دائرة علمه، فقد أحصى وأحاط بكل شيءٍ علمًا أَزلا وأَبدًا.
والمراد بالكتاب على هذا الوجه، علم الله تعالى، تمثيلا لثبوت معلوماته سبحانه، وتقرّرها وتمكنه منها، بما استحفظه العالم وقيده في كتابه، تقريبًا للأَذهان، لأَن علم الله بها أَقوى وأثبت مما حوته كتب الكاتبين، ولكون المراد ما ذكر، عقبه بقوله: (لاَ يَضِلُّ رَبِّى ولاَ يَنسَى) وقيل: المراد به اللوح المحفوظ، والصواب ما قلناه لأنه هو المناسب للمقام - والله أعلم.
وقيل: إنما سأله عن إحصاء أعمال القرون الأولى وجزائها، فأَخبره بأنها محفوظة عند الله في كتاب، وسيجازيهم عليها في الآخرة، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر، ولعل المراد بالكتاب على هذا الوجه، هو السجل الذي يكتب فيه الملك أَعمال المكلف، ويحصِيها عليه، كما جاءَ في قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (١). وقوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ (٢).

(١) سورة ق، الآية: ١٨
(٢) سورة الإسراء، الآية: ١٣


الصفحة التالية
Icon