والمعنى: ما يأتى هؤلاءِ المشركين شىءٌ من القرآن مُذكِّرٌ لهم من ربهم، حديث النزول مع جبريل، إلَّا في حال لهوهم ولعبهم بعباراته، حيث يقدحون فيه ويعترضون عليه، وينكرون ما جاءَ به، جهلًا منهم بمكانته من الحق، ومنزلته من الصدق، ولو أن هؤلاء تذكروا بمواعظ القرآن، لتحققوا من الآخرة وقربها، ولطابت نفوسهم بالتوبة والعمل لأُخراهم، ولم يركنوا إِلى زخارف دنياهم، ولكنهم كما قال الحسن: كلما جُدِّد لهم الذكر، استمروا على الجهل.
٣ - ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ (١) وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾:
أي أَن مشركى مكة كلما أُنزل إِليهم شىءٌ من القرآن حَدِيث النزول، يذكرهم بما يجب لله من صفات الكمال، وبأنهم سوف يحاسبون على أعمالهم، لا يستمعون إِلاَّ وهم عابثون مستهزئون، ساهية قلوبهم معرضة عن ذكر الله متشاغلة عن التأمل والتعقل فيما تنتهى إِليه دنياهم، وما هم منتهون إليه من عذاب السعير، وفي معنى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ (٢). ثم أطلع الله نبيه على مؤامرتهم فقال: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (٣): أَي وبعد أن غمرتهم الغفلة وأعرضوا مستكبرين لاهين مكذبين بالبعث والحساب، أَخفى هؤلاءِ الطاغُون تناجيهم ومسارتهم حين يثبطون المؤمنين ويَصُدُّون الناس عن الإِسلام، بِتنْقِيص الرسول وتكذيبه، وإثارة النفوس عليه، حتى ينفروا منه، ويعرضوا عن دعوته، يقولون لهم:
﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾: الاستفهام للنفى المشوب بالتعجب، أي ما هذا إلاَّ بشر مثلكم، فهو واحد منكم، وليس من الملائكة، فكيف تسمعون له وتطيعونه، إِنه يريد أن يتميز عليكم ويتزعمكم، فليس بنبى ولا رسول كما يقول لكم، ومثلهم في هذا مثلُ قوم نوح، حين قال بعضهم لبعض: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾ (٤).
(٢) سورة الصافات الآيتان: ١٣، ١٤
(٣) (الذين ظلموا) بدل من الواو في قوله (وأسروا) أو أن الواو في (أسروا) حرف للدلالة على الجمعية، و (الذين ظلموا) فاعل، وهذه لغة أزد شنوءة، قال شاعرهم: يلوموننى في اشتراء النخيل أهل وكلهمو ألوم. قال أبو حيان: وهى لغة حسنة وليست شاذة كما قال بعضهم، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما، حيث قالوا: إن الواو في (أسروا) مثلها في (قائمون) ومثل التاء في قامت حرف للدلالة عل جمع المذكر في الأولى وعلى المؤنثة في الثانية.
(٤) سورة المؤمنون: من الآية: ٢٤