ويرى جماعة من السلف أَن هذه الموازين حسية وأن الله تعالى يحول أعمال عباده إلى أجسام، لتكون صالحة للميزان الحسي، حتى يرى كل عامل عمله ماثلًا أمامه، إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ (١). ويستشهدون على رأيهم هذا ببعض الآثار.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: الميزان تمثيل لعدل الله وليس ثمة ميزان حسى، إذ أنه سبحانه ليس بحاجة إِليه، فهو يعلم السر وأَخفى، في حين أَن أعمال العباد يجدونها مسطرة في كتبهم كما حدثت في دنياهم، وحكْمَ الله مقرونًا بها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ (٢).
وبهذا الرأى أَخذ المعتزلة، وينبغى عدم الجدل في حقيقة الميزان وترك أَمرها إِلى الله تعالى. واللام في قوله تعالى: ﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ بمعنى في، أَو للتعليل - أَي لأجل يوم القيامة.
﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾: أي فلا يقع على أَي نفس مؤمنة أَو كافرة ظلم في جزائها الذي تستحقه على أَعمالها، فلا ينقص ثوابها ولا يزاد عقابها: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ ولهذا قال سبحانه:
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾: حبة الخردل تضرب مثلًا في القلة والحقارة، أَي: وإِن كان العمل الذي أَتى به المكلف في غاية الدقة والصغر جئنا به في صحيفته فيتعرف عليه ويجزى به، وعاد الضمير بالتأْنيث على مثقال، لاكتسابه التأْنيث من الحبة التي أُضيف إِليها، وهى مؤنثة.
وقرأَ مجاهد وعكرمة: ﴿أَتَيْنَا بِهَا﴾ أي: جازينا بها، من الإتياءِ بمعنى المجازاة والمكافأَة.

(١) سورة آل عمران، من الآية: ٣٠
(٢) سورة الحاقة، الآيات: من ١٩ - ٢٩


الصفحة التالية
Icon