شروع في بيان ما جناه الناس على أَنفسهم من ترك التبصر والاعتبار والادِّكار بنِعَم الله عليهم، أو بعقاب الله لهم على كفرهم برسله الذين يذكرونهم ويوجهونهم إلى معرفة ربهم بآياته ونعمه.
وقدم الله قصة نوح مع قومه، لأَنه الأَب الثاني للبشرية بعد آدم، ولأنه مكث فيهم أَلف سنة إلَّا خمسين - عامًا يدعوهم، فلما لم يؤمنوا قطع الله دابرهم بالطوفان، فلهذا كانت قصته جديرة بتقديمها، وإيرادها عقب قوله تعالى: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)﴾ للصلة القوية بين نوح والسفن فهو أَول من صنعها من البشر.
والمعنى: ولقد بعثا نوحًا رسولًا منا إلى قومه، ومعه آيات ومعجزات تؤَيد رسالته فقال مستميلًا لهم إلى الحق: يا قومي اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به أحدًا. فإنه ليس لكم إله سواه، أَتشاهدون ذلك في آياته ولا تتقون عقابه وأَنتم به كافرون.
٢٤ - ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)﴾:
يطلق لفظ الملإِ على السادة لأَنهم يملئون العين، كما يطلق على الجماعة مطلقًا (١)، والمراد هنا المعنى الأَول، ووصْفُهم بالذين كفروا من قومه ليس لتمييزهم عن فريق آخر منهم بل لذمِّهم بالكفر مع أَنهم من قومه، إِذ لم يؤمن أحد من أَشرافهم، حسبما يُفْصح عنه قولهم له: "مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا".
والمعنى: فقال سادتهم الكافرون لِعوامِّهم تنفيرًا لهم من اتباعه: ما هذا الذي يدَّعى الرسالة عن الله إِلا بشر مماثل لكم في البشرية والأوصاف المختلفة، يريد بدعواه الرسالة أَن يسودكم ويتقدم عليكم، ولو شاء الله أن يرسل إِلينا رسولا لأرسله وأنزله من الملائكة ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إِليه من عبادة إله واحد - ما سمعنا بهذا - في آبائنا الذين مضوا قبلنا حتى نصدقه.

(١) انظر القاموس.


الصفحة التالية
Icon