وقد دعاهم إلى هذا الإنكار، قياس حال الأنبياء - عليهم السلام - على أَحوالهم، بناء على جهلهم بتفاضل شئون الحقيقة البشرية، وتباين طبقات أفرادها بحيث يكون بعضهم في أَعلى علِّيِّين، وبعضهم في أسفل سافلين، ومن العجيب أنهم لم يرضوا بالنبوة للبشر، وقد رضى أَكثرهم بالأُلوهية للحجر، فقاتلهم الله، ما أجهلهم!
﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ (١) أي: خاضعون منقادون، يعملون في خدمتنا، ويطيعون أَوامرنا كالعبيد، أَرادوا بذلك الحطَّ من قدرهما، والاستهانة بهما، وقصور رتبتهما عن الأهلية للرسالة من وجه آخر غير البشرية، بناء على زعمهم الفاسد في قياس الرياسة الدينية على الرياسات الدنيوية المؤسسة على حظوظ الحياة الفانية من المال والجاه، وجهلهم بأَن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العَلِيَّة، والملكات السنية، جبِلَّةً، لا اكتسابا.
٤٨ - ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾:
أي: فاستمروا على تكذيبهما، وأَصروا عليه، فأهلكهم الله بإغراقهم جميعا في بحر القلزم (البحر الأحمر) أهلكهم جزاءَ تكذيبهم.
٤٩ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون﴾.
يخبر سبحانه إِخبارا مؤكدا بأَنه آتى موسى - عليه السلام - التوراة فيها آحكامه وأوامره ونواهيه، وقد كان ذلك بعد إهلاك فرعون وقومه، وإنجاء بنى إسرائيل.
والمعنى: ولقد آتينا موسى التوراة، لعل من أرسل إليهم من قوم فرعون وبنى إِسرائيل - لعلهم - يهدون بها إلى الحق المبين، وخص موسى بالذكر هنا دون هرون؛ لأَن التوراة أنزلت على موسى في الطور، أما هرون فهو وزيره ومُعينه في دعوته، أو روعى الاقتصار على موسى لأنه الأصل في الأنباء، وذلك لا يمنع من إِرادة هرون معه، فقد ذكر في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ (٢).
(٢) سورة الأنبياء، من الآية رقم: ٤٨