٤٣ - ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي... ﴾ الآية.
لم يصف أباه بالجهل المفرط، وإن كان قد بلغ فيه الغاية، ولا وصف نفسه بالعلم الفائق الذي منحه الله إياه فهو نبيٌّ مرسل، بل جعل نفسه معه في صورة رفيق يصاحبه ويخلص له، حتى يستميله إِلى ما يدعوه إليه، فيسير إِلى جانبه في طريق الهدى والرشاد، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾: أي فاتبعنى إلي ما أدعوك إليه، أُرشدك إلى دين قويم يوصلك إلى أسنى المطالب ويبعدك عن الضلال المؤَدى إلى أفدح المعاطب..
والظاهر أن هذه المحاورة كانت بعد أن نُبِّىءَ، بدليل قوله: ﴿جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ أي جاءَنى العلم بما يجب في حقه تعالى وما يمتنع وما يجوز، على أَتمّ وجهٍ وأكمله. وقيل العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها، وقيل بما يعم ذلك. وهو الأنسب.... وقد واصل إبراهيم نصحه لأبيه فقال:
٤٤ - ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ.... ﴾ الآية.
وهنا ثبطه عما كان عليه، بتصوير صنيعه بصورة يستنكرها كل عاقل. وذلك.
ما حكاه الله سبحانه يقوله: ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ أي لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام التي عكفت عليها، فإِنه هو الداعى إلى ذلك يغريك به، ويدفعك إليه، ومن أطاعه في معصية الله فقد عبده.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾: تعليل للنهى عن عبادة الشيطان وتأكيد له ببيان أنه لا يَعْرف للرحمن حقا، فلهذا كان له عصيّا، أي كثير العصيان حين لم يمتثل أَمر ربه بالسجود لآدم، ثم حرضه على معصية ربه بالأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، حتى تسبب في إخراجه من الجنة، وكل من هو عاصٍ حقيق بأن ينتقم الله منه.
والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه أكثر قبحا، أو لأنه مترتب على معاداته لآدم عليه السلام وذريته، فتذكير أبيه بذلك داع إلى الاحتراز عن طاعته وموالاته، والتعبير بلفظ الرحمن مشير إلى الإنعام والرحمة منه تعالى والشناعة البالغة من الشيطان لعصيانه للرحمن سبحانه، إِذ أَن رحمته تستوجب طاعته جل وعل