﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (١) والحق أن الفقر ليس من الرذالة في شيء؛ قال الشاعر:

قد يدرك المجدَ الفتى ورداؤه خَلَقٌ وجَيْبُ قميصه مرقوعُ
وخسة الصناعة مع تقوى الله، لا تلحق بصاحبها نقصًا، قال أبو العتاهية:
وليس على عبد تقيٍّ نقيصة إذا صحح التقوى وإن حال أو حجم (٢)
ومثلها ضَعَةُ النسب فقد قيل:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
ولمَّا سأل هرقل أبا سفيان بن حرب قائلا: أأشراف الناس اتبعوا محمدًا أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هؤلاء هم اتباع الرسل، ولما كان وصفهم لمن اتبعوا نوحًا بأنهم أرذلون، فيه تعريض بأنهم لم يتَّبعوه إخلاصًا له أو لدينه، بل ليرفعوا خسَّتهم، أو ليصيبوا بإيمانهم بعض المنافع، فلهذا رد عليهم نوح بما حكاه الله بقوله:
١١٢ - ﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾:
أي: ليس لي علم بما كانوا يعملون بإيمانهم، وهل عملوه إخلاصًا أو طمعًا في غرض دنيوى، وأي شيء يُلزمني بالبحث عن نية هؤلاء بإيمانهم، فليست وظيفتي إلاَّ اعتبار الظواهر، وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم، والشق عن قلوبهم، أما معرفة القلوب والحساب على ما انطوت عليه فهي لله تعالى، كما قال سبحانه:
١١٣ - ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾:
ما محاسبتهم على إيمانهم وأعمالهم، وجزاؤهم عليها إلا على ربي، فهو سبحانه المطلع على البواطن، العليم بما تخفى الصدور، المحاسب والمؤاخذ عليها، لو كنتم من أهل الشعور والإدراك لعلمتم ذلك، لكنكم لستم كذلك فقلتم ما قلتم.
(١) سورة الزخرف: ٢٣
(٢) حاك: معناه نسج، ومصدره الحياكة، وحجم أي: امتص الدم من العضو بعد حجمه بالمحجم لدفع الألم عنه، والحجامة: حرفة الحجام.


الصفحة التالية
Icon