وذكرت أَنه تفقد الطير التي جعلها الله من جنوده، فلم يجد الهدهد، فعجب لتخلفه عن موقعه، وتوعده بالتأْديب الشديد، ما لم يأْته بسبب مقبول يقتضي تخلفه، فلم يطل غيابه، بل حضر إِليه وأَخبره بخبر عجيب، إِذ قال: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ... ﴾ الآيات.
فلما فرغ من حديثه العجيب قال له سليمان: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ وبعث معه رسالة إِلى ملكة سبأ، وأَمره بمراقبتها بعد وصول خطابه إِليها، ليعلم منه كيف تتصرف عندما يحدق بها الخطر، فحمل كتابه وأَلقاه إِليها، فجمعت أَشراف قومها قائلة: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ وطلبت منهم الِإفتاءَ وبذل المشورة في هذا الأَمر الخطير، إذ قالت: ﴿أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾، فردوا قائلين: ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ فلما أَحست منهم الميل إِلى القتال دفاعًا عن البلاد قالت: ﴿إنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً.... ﴾ ورأَت المصالحة بإرسال هدية إِلى سليمان - عليه السلام - لترى أثرها عنده، فلما وصل الرسول بهديتها ردها سليمان إليها، وأخبرها بأَن الله أَعطاه خيرًا مما أَعطاها، ولم يقبل منها سوى الاستسلام، حتى لا يأْتيهم بجنود لا قبل لهم بها، فيخرجوا من بلادهم أذلة صاغرين.
ثم طلب من جلسائه أَن يحضروا لها عرشها قبل أن تأْتيه مسلمة، فكان أسرعهم مَنْ عنده علم من الكتاب، حيث جاء به قبل أَن يرتد إليه طرف فشكر الله - تعالى - على تلك النعمة، وطلب من أتباعه أن يُنَكِّروه لها لتغيير هيئته ليعرف مقدار فطنتها ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾، ثم قيل لها: ادخلي القصر، فلما دخلته رأَت صَحْنه كأَنه ماءٌ، فكشفت عن ساقيها، فقال: إِن ما تظنينه ماء هو صرح أَملس من