والمعنى: وجدت هذه الملكة وقومها يسجدون للشمس عابدين لها، متجاوزين عبادة الله معرضين عنه، وقد زين لهم الشيطان أَعمالهم المجافية للحق في العقائد والسلوك، فصرفهم عن السبيل الموصلة إليه، فهم لأَجل ذلك لا يهتدون إلى الصواب - صرفهم - لئلا يسجدوا لله الذي يظهر الخفى في السموات، فيجعل الكواكب إلى أخفاها النهار تبدو في الليل، والشمس التي أخفاها الليل تبدو بالنهار، والأَمطار المحبوسة في الفضاء تبدو بهطولها، وغير ذلك مما يكشفه الله من أسرارها، ويظهر ما اختبأَ في الأرض من الكنوز التي لا تحصى أنواعها، والنبات الذي لا تعد أجناسه وخصائصه وغير ذلك مما يكشفه لنا من خباياها، ويعلم ما يخفيه هؤلاء الذين يعبدون الشممس وما يظهرونه، وليس للشمس شيءُ من ذلك، فهي مسخرة لله تعالى، فكيف ينصرفون عن عبادته إلى عبادتها؟
٢٦ - ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾:
هذه الآية تحكى آخر ما ذكره الهدهد لسليمان بشأْن غيابه عنه دون إذن، وهي - كالتعليل لوصفه الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالقدرة على إخراجه الخبءَ في السموات والأرض، وعلمه بأَحوال من يعبدون الشمس من دونه.
والمعنى: الله لا معبود بحق إلَّا هو، رب العرش العظيم الذي لا حد لعظمته، فكيف تركوا عبادته لعبادة الشمس التي هي من مقدوراته ومخلوقاته؟
والعظيم - بالجر - وصف للعرش، ويكفى في الدلالة على عظمته، أن الكرسى الذي وسع السموات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، كما ورد في السنة - فأين عظمة عرش ملكة سبأَ من عظمة عرش الرحمن - سبحانه وتعالى -؟
بعد، فإن الإنسان ليقف مبهورًا أمام قصة هذا الهدهد، كيف استطاع أن يتعرف على أحوال مملكة سبأَ وعقائدها بهذه الدقة، وأن يلومهم على تركهم عبادة الله إلى عبادة الشمس، مع أنها وعابديها تحت سلطانه وعلمه - جل وعلا -.
وإن المرءَ ليعجب من وصول الطير في العلم باللهِ إلى هذه الدرجة، في حين أن بعض البشر لم يصلوا إلى مثلها، ولا نجد شيئًا نقوله أمام هذه العجائب خيرا من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (١).

(١) سورة الإسراء، من الآية: ٤٤.


الصفحة التالية
Icon