في أسفارهم للتجارة بديار وبلاد أولئك المكذبين المهلكين، ويشاهدون آثار هلاكهم. ويمشون في مساكنهم فلا يرون فيها أحدًا ممن كان يسكنها ويعمرها ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ (١) وكان عليهم أن يعتبروا بهذه القرون المعاقَبة قبلهم.
إن فيما حل بأولئك الطغاة من هلاك ودمار بسبب تكذيبهم الرسل إغفال ما جاءهم من الآيات البينات، وهي عظيمة في نفسها، كثيرة في عددها ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ أي: أَصَموا فلا يسمعون آيات الله وعظاته وأخبار من تقدم من الأُمم سماع تدبر واتعاظ، ليثوبوا إلى رشدهم، ويقبلوا على طاعة ربهم؟
٢٧ - ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾:
المعنى: أعَمُوا ولم يشاهدوا كمال قدرتنا بسَوْق السحاب الحامل للماء، أو بسوق نفس الماء بالسيل أو بإجرائه في الأنهار، نسوقه إلى الأرض الجرز وهي اليابسة التي لا نبات فيها لانقطاع الماء عنها أو لرعيه أو إزالته، نسوق الماء إليها لنحييها بعد موتها، فنخرج بالماء زرعًا - ويراد به النبات مطلقًا مزروعًا أو غير مزروع - نخرجه به ليكون غذاء تأكل منه أنعامهم كالكلأ (٢) والعشب والتبن والحبوب الخاصة بها، وتأكل منه أنفسهم، كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان والخضراوات والفواكه ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ هذا بأَعينهم، وينظرون إليه نظر تفكر وتدبر، فيستدلوا به على كمال قدرته - تعالى - على إحياء الموتى بالبعث، وعلى فضله وإحسانه إلى خلقه؟!.
وقدم الأنعام في الآية على أنفسهم لأن انتفاعها مقصور على الزرع، وأما الإنسان فقد يتغذى بغيره، وجعلت الفاصلة هنا (يبصرون) لأن ما قبلها مرئي، وفي الآية السابقة يسمعون لأن ما قبلها مسموع، وقيل: ترقيًا إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر: ذكر ذلك الآلوسي.
(٢) الكلأ: العشب رطبه ويابسه.