والمعنى: من المؤْمنين المخلصين رجال، أي رجال؟! رجالٌ عاهدوا الله أن يكونوا فداءً للدعوة وقربانا للإسلام، ومنارات على طريق الإيمان بالثبات مع الرسول في القتال، والاستبسال في الذود عن دين الله حتى يفوزوا بإحدى الحسنيين: الشهادة أَو النصر، وصدقوا في هذا العهد بأَن وفوا به وحققوه بما أظهروه من أعمالهم، ومن وفى بعهده فقد صدق فيه.
وهؤُلاء الصادقون منهم من قضى نحبه، أَي: وَفَّى بنذره بأَن قاتل حتى استشهد كحمزة أَسد الله ورسوله، قتل وهو يصول ويجول كالأَسد الهصور في الميدان، ومصعب ابن عمير استشهد وهو يحمل لواءَ المؤمنين إلى الجنة، وأَنس بن النضر الذي تقدمت قصته، ومنهم من ينتظر بأَن بقى حيًّا يتشوف إلى ذلك الشرف وينتظر يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤَدى نذره ويفي بعهده كعثمان وطلحة، روى أَن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أُصيبت يده، فقال الرسول: "أوجب طحة".
وعن ابن عباس أن نافع بن الأَزرق سأَله عن قوله - تعالى -: (قَضَى نَحْبَهُ) فقال: أجله الذي أجل له، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد:
ألا تسأَلون المرءَ ماذا يحاول | أنَحْبٌ فيقضى أم ضلال وباطل |
والمعنى الأصلي للنحب - على ما قرره الراغب والبيضاوى والكشاف -: النذر، يقال: قضى فلان نحبه، أي: وفى بنذره، واستعير للموت لأَنه كنذر لازم في رقبة كل حيران، كما يطلق - أيضًا - في اللغة على الأَجل والنفس وغيرهما.
﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾: وما غيّر هؤُلاء الصادقون عهدهم، ولا نقضوه ولا بدلوا تبديلا، لا أصلا ولا وصفا، بل ظلوا على ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا راغبين فيه مراعين لحقوقه صادقين في تحقيقه، وفي الكلام تعريض بمن بَدَّله من المنافقين، فكأَنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون.