هذا، وأصل الفطر: ابتداء الخلق وابتداعه، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كنت لا أدرى ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا (فطرتها) أي: ابتدأتها".
٤٧ - ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾:
ولو كان للذين ظلموا أنفسهم بالشرك، والإسراف في العناد والمعارضة - لو كان لهم - ما في الأرض جميعًا من الخيرات، والكنوز والأموال ومثله معه، لهان عليهم أن يبذلوه افتداء لهم وخلاصًا من سوء العذاب يوم القيامة، لهول ما يشاهدون، وفظاعة - ما يلاقون - وهيهات - وفي هذا قمة الوعيد، وغاية الإقناط لهم من الخلاص والنجاة ما داموا به كافرين.
وفي قوله - تعالى -: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾: ارتفاع بالوعيد إلى أقصى ما يتمثله متمثل، أو يدخل تحت حِذْرٍ وتقدير. أي: وظهر لهم من الله من ضروب العذاب، وصور العقاب والانتقام، ما لم يخطر على بالهم، ولم يدخل في تقديرهم وحسابهم.
وهذا الوعيد غاية في التخويف والتحذير يقابلها في الترغيب والتبشير قول الله - تعالى -: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١).
٤٨ - ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾:
تمضى الآيات في ترديد الوعيد وتبديء فيه وتعيد، لتقطع الحجة على كل مكابر، وتعقد لسان كل عنيد، فيقول الله - تعالى -: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ أي: وظهر - للمشركين يوم القيامة حين عرضت عليهم صحائف أعمالهم، وأخذوا كتبهم بشمائلهم، وقالوا وفي عيونهم عبرة، وقلوبهم في غمرة: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا... الآية﴾ (٢) - بدا لهم يومئذ - سيئات ما عملوا في دنياهم
(٢) سورة الكهف من الآية: ٤٩.