وعندما نجادل أهل الكتاب في عقائدهم ونصوص كتبهم، نجادلهم بدون اعتداءٍ، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (١).
وقد كانت قريش تجادل في القرآن غرورًا بما هم فيه من السعة والتجارة، من مكة إلى الشام وإلى اليمن وبالعكس، فأوصى الله نبيه - ﷺ - أن لا يغره ولا يخدعه تقلبهم في تجارتهم في البلاد، وسلامتهم من العقاب مع كفرهم، فإنه متاع في الدنيا قليل، عاقبته الهلاك في الدنيا، ثم العذاب يوم القيامة عقوبة لهم إن بقوا على كفرهم، "إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
والمعنى الإجمالي للآية: ما يجادل في آياتنا الواضحة البيان، المؤيدة بالبرهان، إلاَّ الذين كفروا بالحق مع وضوحه، فلا يغررك أيها الرسول ولا يخدعك تقلبهم في التجارة من بلد إلى بلد، وما هم فيه من الغنى والسعة، فإن ذلك متاع قليل بعده الهلاك وسوء العقاب، كما قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (٢).
وكما قال في سورة لقمان: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (٣).
ثم سلى الله نبيه بما حدث للرسل قبله من أقوامهم فقال:
٥ - ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾:
القوم قد يؤنث بتأويل الجماعة، وهو هنا كذلك، ولذا أُنث له الفعل في كذبت والأخذ يستعمل بمعنى الحبس والمنع تارة، وبمعنى الإهلاك تارة أُخرى.
والمعنى: كذبت قبل قريش قوم نوح والأحزاب من بعدهم - كذب هؤلاء جميعًا - رسلهم الذين دَعَوْهم إلى نبذ الأوثان، وعبادة الواحد الديان، وحاولت كل منهم حبس رسولهم ليقتلوه، وهموا بذلك، ومنهم من قتلوه، وخاصموا بالباطل من القول ليقضوا
(٢) الآيتان: ١٩٦ - ١٩٧.
(٣) الآية: ٢٤.