قال: "إياكم والظَّن، فإن الظن أكذبُ الحديثِ، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تنابزوا وكونوا عباد الله إخوانًا".
والظَّن في الآية والحديث هو الاتهام، فلا يحل لمسلم أن يتهم أخاه، صيانة لأعراض الناس وتأمينًا لهم من سوء السمعة بدون مقتض، ومنعًا للعداوة وآثارها.
ويفهم من النهي عن كثير من الظن أنه يجوز بعض الظن، وذلك إذا وجدت أَمارة تقتضيه، قال القرطبي: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم نعرف له أمارة صحيحة وسببا ظاهرا كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأُونست منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطى الرِّيب، والمجاهرة بالخبائث.
ونزيد على ذلك فنقول: إنه لا ينبغي أن تتهم إنسانا بأَنه هو الذي أَحدث لك بعض الأضرار في أرضك أو بيتك أو سمعتك، ما لم تقم أَمارة قوية على ذلك، حتى لا تتورط معه فيما يضرك ويضره، فربما كان ما أصابك مِمَّن يظهر لك مودة وأنت به واثق.
ويجوز الحذر من شخص أو أشخاص، خشية أن يأتيك ضرر من جهتهم، وليس لك أن تتهمهم بغير دليل، فإن اتهمتهم لوجود أمارة تدل عليه ذلك الحق في اتهامهم، ولكن ليس لك الحق في الانتقام منهم، فربما كانوا برآء، وعليك أن تلجأَ إلى القضاء، فهو الذي يفصل الحق من الباطل.
ويجوز التجسس لتوقى هذه الأضرار، دون أي مساس بحرمات من تتجسس عليه، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك.
قال عمر بن طلحة في كتابه (العقد الفريد للملك السعيد): وأما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه بذل جهده في تسديد الأمور، وسدِّ الثغور وسياسة الجمهور، وكان علمه بمن نأَى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه على مهاده، فلم يكن له في قطر من الأقطار والٍ ولا عاملٌ ولا أمير إلا وله عليه عَينٌ (أي: جاسوس)


الصفحة التالية
Icon