المعنى: فمال إلى أهله فور دخولهم عليه في خفية منهم فإن من حسن أدب المضيف أَن يبدأ ضيفه بالقرى، وأن يبادره به حذرًا من أَن يكفه ويمنعه، أو يعذره أو يصير منتظرًا، وقوله - تعالى -: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: مكتنز لحمًا وشحمًا غير مهزول جاء به بسرعة.
(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) أي: فقدم الطعام إلى الضيف وطلب إليهم تناوله يقوله: ألا تأكلون؟ فهو بمثابة قولنا للضيف عند إحضار الطعام: تفضل لتناوله. ولم يقبل الضيف على الطعام، ولم يتقدموا للأكل (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فأحس في نفسه خيفة وإشفاقا منهم، وعرفوا في ذلك منه (قالوا لا تخف) فقالوا له مطمئنين: لا تخف، وكشفوا عن حقيقتهم (وبشروه بغلام عليم) يشب ويكبر حتى يدرك مدارك الرجال، ويصير من أهل العلم والمعرفة، وهو إسحاق - عليه السلام - لقوله تعالى -: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١)﴾ والظاهر أَن زوجه كانت تقف قريبًا من إبراهيم وضيفه بحيث تسمعهم ولا يرونها، فلما سمعت البشارة دهشت، ونسيت ما ينبغي منها (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: فأقبلت عليهم في صيحة وضجة، وضربت جبهتها بأصابعها على عادة النساء إذا سمعن أمرا عجيبًا، وقالت: أنا عجوز عاقر، فكيف تتأتى هذه البشارة؟!! وكيف ألِد؟!!
٣٠ - (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ):
قالت الملائكة: الأمر كما سمعت، أو مثل ذلك القول الكريم قال ربّك، وإنما نحن معبّرون بخبرك به - عنه تعالى - لا أنَّا نقول ذلك من تلقاء أنفسنا، إنَّه هو الحكيم الذي يضع الأمر في موضعه وضعًا متقنا، العليم الذي يكون قوله حقا لا محالة.
وقد تعددت رواية هذه القصة هنا وفي سورة هود وسورة الحجر، واختلفت أساليبها فبرز في كل واحدة من هذه الروايات جانب لم يظهر في الموقع الآخر على أسلوب القصص القرآنى إذا تعددت رواياته.