والمعنى: كثيرًا جدًّا كانت لهم أَموال وخيرات متعددة الأَصناف والأَنواع تركوها في مصر من بساتين كثيرة وجميلة، وعيون ثَرَّة يجرى ماؤُها في قنواتٍ بين الزروع والأَشجار فتزيدها بهجة وروعة، وكم تركوا فيها من زروع مختلفة الأَلوان والمطاعم متفاوتة الأشكال والمظاهر، ومجالس شريفة، ومحافل غاصّة، ونواد خاصّة، وغير ذلك من صنوف النعم وأَلوان الخيرات التي كانوا يتنعمون بها فاكهين متمتعين مسرورين لا يزعجهم إقلال ولا يخافون حرمانا، وقريءَ (فَكِهِينَ) بمعنى أَشِرِين بطرين لم يشكروا هذه النعم ولم يَحمْدُوا عليها.
٢٨، ٢٩ - ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾:
أَي: مثل ذلك التنعيم نعمناهم وأَترفناهم فلم يقيموا لها وزنًا فحرمناهم من هذه النعم كلها وأورثناها قومًا آخرين وهم بنو إِسرائيل كما في قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (١) أَي: أَنهيناها إليهم سهلة سائغة في غير جهد ولا مشقة، وصارت لهم بعد أَن كانوا مستعبدين فيها، وصدق الله العظيم: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ (٢).
والمقصود من هذه الآية أَنهم ورثوا من ملك فرعون في أَرض الشام، التي هاجروا إليها وكانت متابعة لمصر في عهد فرعون، ولم يثبت تاريخًا أَنهم عادوا إلى مصر بعد أَن هاجروا إلى الشام، ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ المعنى: أَنزلنا بفرعون وقومه ما أَنزلنا من إِهلاك وإِغراق واستئصال أموال وأحوال، وأَورثنا ما كان لهم من جنات وعيون وزرع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين أورثناها قوما ليسوا منهم في دين ولا قرابة ولا ولاء، فما بكت عليهم أَرض ولا سماء، لظلمهم وعدوانهم، والمقصود من عدم بكائهما عليهم هوانهم على الله وسائر العالمين، فالآية تمثيل للمبالغة في تهوين شأنهم وتحقير أَمرهم

(١) الآية: ٥٩.
(٢) سورة الأعراف آية: ١٣٧.


الصفحة التالية
Icon