١٣ - ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾:
الخطاب في هذه الآية إلى الرسول - ﷺ - تسلية له وتهوينا عليه أمر هجرته من بلدته، وتهديدا للمشركين بالهلاك والدمار كما هلك من كانوا قبلهم من الطغاة المتجبرين الذين كانوا أشد منهم بطشا، وأعظم قوة ومنعة فأقفرت منهم الدنيا، وخلت الديار.
والمعنى: وكم من قرية كان أهلها أشد قوة، وأعتى بطشا، وأعز سلطانا ومنعة من أهل قريتك: مكة التي أخرجك منها أهلها بتتابع أذاهم، وتلاحق كيدهم، وسوء مكرهم، وتدبيرهم، فكانت نهاية أمرهم الهلاك بأنواع العذاب، فلم يكن لهم دافع يدفع عنهم، ولا ناصر ينصرهم، فهؤلاء المشركون من أهل مكة لهم نهاية كنهايتهم إن استمروا على كفرهم.
أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مودويه، عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: "أنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك لم أخرج منك".
١٤ - ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٤)﴾:
هذه الآية تستحث العقل وتستنهض الفكر إلى ضرورة النظر، والتمييز بين الحق، والباطل، والصحيح والفاسد، والضار والنافع، والتسامى عن الانقياد الأعمى للآباء، واتباع الشهوات، بعد بيان نعيم المؤمنين، وشقاء الكافرين.
والمعنى: أيستقيم في العقل السليم، والفكر القويم أن يستوى من كان على حجة ظاهرة وبرهان نيّر من الله مالك أمره ومربِّيه، فأيده بالقرآن وسائر المعجزات والحجج العقلية - أفمن كان كذلك - يماثل من زيّن له الشيطان سوء عمله، وحسن له سبل غوايته، فأمعن في الشرك الذي هو أقبح القبائح، وانغمس في المعاصي والنكرات، وجرى مع الغواة والمفسدين فاتبعوا أهواءَهم الفاسدة، ونزواتهم الطائشة، وانهمكوا في الملذات، وذابوا في الضلالات؟!!
وجمع الضمير في قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ مراعاة لمعنى (مَنْ) وأفرد مع قوله: (أفمن كان) مراعاة للفظها.