لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخّرا، وتأخّر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة".
ومعلوم أن القول بأن ترتيب الآيات اجتهادي لم يقل به أحد من العلماء وإنما انعقد الإجماع وقامت الأدلة _ كما تقدم معنا _ على أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه. فالقول بأنه اجتهادي خروج على الإجماع والأدلة المتضافرة، هذا بالإضافة إلى أن الشوكاني لم يذكر لنا دليلا واحدا على رأيه هذا.
وإذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا رُتّبَت الآيات ترتيبا مخالفا لترتيب النزول؟ وهل كان هذا الأمر هكذا جزافا أم لابد وراء ذلك من حكمة؟ وإذا كان لحكمة فما هي هذه الحكمة؟ إن لم تكن الناسبة؟ وإذا كانت الناسبة خافية في بعض الأحيان فليس معنى ذلك أنها غير موجودة، بل معنى ذلك أننا قصرنا في استخراجها وإدراكها كما تخفى علينا كثيرا من الحكم في آيات الله في الآفاق والأنفس، وقد يظهر في عند البعض ما هو خاف عند غيرهم وقد يظهر في زمن ما خفي في زمن آخر، ولا شك أن الإنسان يأخذ من القرآن بقدر ما يعطيه، والمناسبة تكون على وجوه وتدرك حسب أفهام الناس، ولا بد من اختلاف لمدارج الناس في العلم وقوة الاستنباط. فبعض الوجوه يظهر على بعض الناس، وبعضها عل بعض آخر. ويعلق الفراهي على هذه الفكرة في كتابه ((دلائل النظام)) فيقول:
المنكر للنّظْم _ أي المناسبة _ لا محيص له من أحد ثلاثة أقوال:
فإما أن يقول بأن السورة ليست إلا آيات جمعت بعد النبي صلى عليه وسلم من غير رعاية ترتيب كما وجدت في أيدي الناس. وإما أن يقول بأنها اختل نظمها، لما أن الآيات التي أخلت بين الكلام المربوط قطعت النّظم، فكلا القولين ظاهر البطلان ومبنيٌ على الجهل الفاحش بجمْع القرآن وترتيبه، ومواقع الآيات المبيّنة والمفصلة بعد النزول الأول.


الصفحة التالية
Icon