وتفرّقوا عنه. فلما رأى رحبعم ذلك منهم، هاجرهم، ونجا بنفسه إلى فلسطين، وأقبل بخت نصر حتى ورد بيت المقدس لا يمنع عليه صغير ولا كبير، فوضع في بني إسرائيل السيف، وأقام بينهم ميزان الحيف (١)، وأذاقهم لباس الخوف، وسبا منهم سبيا كثيرا، وكان من جملة السبايا دانيال عليه السّلام ثم رجع بالغنائم، والأسارى إلى بابل، وأتى على هذا زمان، ثمّ إنّه رأى رؤيا هائلة، فأخبر بها أهل العلم، فقالوا: هذا علم لا يتوصّل إليه إلا نبيّ يوحى إليه، فبعث إلى السجن، واستحضر دانيال عليه السّلام فلمّا دخل عليه دانيال لم يسجد له، فقال بخت نصر: لم لم تسجد كسائر العبيد؟ قال: لأنّ الله تعالى خصّني بالنبوّة، وأمرني أن لا أسجد إلا له، فأيقن بخت نصر أنّه نبيّ، وأعجبه كلامه، ثمّ ذكر له حديث الرؤيا، فقال دانيال عليه السّلام: رأيت صنما عظيما رجلاه في (٢) الأرض، ورأسه في السماء، رأسه من ذهب، وصدره من فضة، وبطنه من نحاس، وفخذاه من حديد، وساقاه إلى قدميه من فخّار، وبينما (٣) أنت متأمّله وتتعجب منه إذا سقط عليه حجر من السماء فهشمه، وجعل الحجر يعظم، وينبسط حتى ملأ الأرض، فصرت لا ترى غير الحجر والسماء شيئا، قال بخت نصر: صدقت وبررت، فما تأويلها؟ قال دانيال: أمّا الصنم فبيتكم أيّها العجم، وأما الذهب فملوككم، وأما الفضة فأشرافكم، وأما النحاس فأوساطكم، وأما الحديد فمن دونهم، وأما الفخّار فسفلتكم، وأما الحجر فنبيّ آخر الزمان، يخرج من تهامة، ويهاجر إلى طيبة، اسمه محمد وأحمد، يطحن الله به الكفر، ويفرّق به بين الحق والباطل، ويعزّ به الذليل، ويقوّى به الضعيف، ويغنى به الفقير، ويؤمّن به الخائف، فلا يزال أمره يعظم، وأمّته تزداد، ودينه يعلو، ويملأ الأرض ذات العرض، ويبقى الملك في قومه إلى يوم القيامة. (٤) قال بخت نصر: ومتى يكون ذلك؟ قال: بعدك بألف (٥) عام، فلمّا سمع ذلك بخت نصر أطلقه من السجن، وأذن له في الدخول عليه، ولم يأل في إكرامه والإحسان إليه حتى حسده على ذلك مرازبة (٦) بخت نصر، فأنكروا ذلك، فاتّهموه في ذلك، ورموا دانيال عليه (١٨٦ ظ) السّلام بالسحر، فلم يلتفت بخت نصر إلى شيء من قولهم حتى قالوا: إنّه يعبد غير معبودك، فأمر بخت نصر أن يحضر صنمه على رؤوس الناس، ودعا بدانيال (٧) عليه السّلام، فقال: إذا رأيتني وقومي نسجد لهذا فاسجد معنا، ثم خرّ بخت نصر ساجدا مع قومه أجمعين، وأبى دانيال عليه السّلام أن يسجد،
_________
(١) الخوف.
(٢) ك: إلى.
(٣) ع وأ: فبينما.
(٤) قصة الرؤيا التي رآها بخت نصر، تنظر في: أعلام النبوة ١/ ٢٠٨، والبداية النهاية ٢/ ٣٢٥، والخصائص الكبرى ١/ ٤١.
(٥) ع: بعد.
(٦) واحدها: مرزبان، معربة من الفارسية، وهو الفارس الشجاع، المقدم على القوم دون الملك. لسان العرب ١/ ٤١٧.
(٧) الأصول المخطوطة: به دانيال.


الصفحة التالية
Icon