لرعاية الفاصلة، أو لقصد التعميم إذ كان التقدير يكذبون ما جاء به أي جميع ما جاء به مما يلزم تصديقه فيه أو للاختصار، أو لأنّ العناد وتكذيب الرسول كانا من شأن اليهود، ولما كانوا غير مجاهرين بالتكذيب والكفر وإلا لم يكونوا منافقين حمله على التكذيب بقلوبهم، أو بدون مواجهة المؤمنين بل مع شياطينهم وهو مجاز عن رؤسائهم وعقلائهم، وفي نسخة شطارهم جمع شاطر وهو من أعيا أهله خبثاً والمراد به ما ذكر مجازاً أيضاً أو كناية أي يكذبونه بقلوبهم دائماً وبألسنتهم ﴿إِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ فقوله وإذا خلوا معطوف على قوله: بقلوبهم بتقدير وبألسنتهم إذا إلخ. قوله: (أو من كذب الذي هو للمبالنة إلخ) فهو لازم بلا تقدير والتفعيل حينئذ إمّا للمبالغة لقوة كذبهم وتصميمهم عليه كبين بمعنى
تبين الوارد في كلامهم بمعنى كمال ظهور الشيء واتضاحه، أو للتكثير دلالة على كثرة الفاعل كما في قولهم موتت البهائم جمع بهيمة وهي معروفة، وقيل إنهم ذهبوا إلى أنّ الكثرة في موتت لتعذر تكثر الفعل بالنسبة لكل واحد، وهنا ليس كذلك فيرح إلى الوجه الذي قبله من المبالغة إلا أن يقال المبالغة بالنسبة إلى ذات الكذب في نفسه، والكثرة بالشبة لتعدده، فحقيقة الأمرين راجعة إلى القوّة والكثرة، وتغايرهما ظاهر فسقط ما قيل من أنّ عطف التكثير على المبالغة بأو الفاصلة ليس كما ينبغي، وقد يكون التكثير في المفعول كقطعت الأثواب، وكذب الوحشي قيل إنه. على هذا مجاز مأخوذ من كذب المتعدي، كأنه يكذب رأيه وظنه، فيقف لينظر ما وراءه ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنّ كونه متعديا بحسب الأصل غير موافق لما نحن بصدده فتدبر. قوله: (الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به) الخبر هنا بمعنى الاخبار، وهو أحد معنييه قال الراغب في كتاب الذريعة: ذهب كثير من المتكلمين إلى أنّ الصدق يحسن لعينه، والكذب يقبح لعينه.
وقال كثير من الحكماء والمتصوّفة أنّ الكذب يقبح لما يتعلق به من المضارّ الخالصة، والصدق يحسن لما يتعلق به من المنافع الخالصة لأنّ شيئاً من الأقول والأفعال لا يقبح ويحسن لذاته اهـ. وقوله: (على خلاف ما هو به) أي ما هو متليس به في نفسه وحد ذاته في الواقع ونفس الأمر، أو في اعتقاد المخاطب، وفي ذهنه فكلامه صادق على المذاهب ففيه إيجاز حسن. قوله: (وهو حرام كله إلخ) قيل عليه إنه تبع فيه الزمخشريّ، وهو مبنيّ على مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح المقتضي لأن يكون حراما لعينه كما مرّ، ولذا قال: وهو قبيح كله وعدل عنه المصنف والمصزح به في كتب الافعية المعتمدة أنّ من الكذب ما هو حرام وما هو مباح، وما هو مندوب وما هو واجب وقد ورد الحديث بجوازه في ثلاثة مواطن في الحرب، واصلاح ذات البين وكذب الرجل لامرأته ليرضيها (١ (وهو مرويّ في الصحيحين، والسنن كما فصله النووي في أذكاره، وفيه تفصيل قاله الغزاليّ وهو أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مبا-حا وواجب إن كان واجباً فلو اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو سأل عن ماله ليأخذه ولو
استحلفه لزمه أن يحلف، ويوري في يمينه، وكذا في كل مقصود، فلا يختص بالصور الثلاث الواردة في الحديث بل ينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشذ ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه أو شك حرم عليه الكذب اهـ ونحوه في كتاب الذريعة للراغب، فما قيل في الجواب عنه بأنه مذهب الشافعية من قصور النظر، فإنه متفق عليه في جميع المذاهب كما صرحوا به، وقيل إنّ معنى الكلية في كلام المصنف أنّ الكذب حرام مز حيث ذاته مطلقاً وقد يكون مباحاً من حيث وصفه كما في الصور المذكورة، وهو وهم على وهم، فإنه مع مخالفته لمذهبه مبنيّ على الاعتزال. قوله: (لأنه علل به استحقاق العذاب إلخ) في الكشاف وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم ونحوه قوله تعالى ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ [نوح: ٢٥] والقوم كفرة وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها يعني أنّ فيه تعريضاً يتضمن تحريضاً للمؤمنين على ما هم