فصرّح بنقي الكذب في هذه الثلاثة، وهو حديث صحيح لا علة فيه والترخيص في الثلاث لم يصح، فإن ثبت فهو من قول الراوي، وقد قال تعالى ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩] وقال: ﴿اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٥] على العموم اهـ وهذا مخالف لما مرّ عن الفقهاء فتدبر. قوله: (عطف على يكذبون) فهو جملة في محل نصب لعطفها على خبر كان وجملة كان صلة ما، وقد تقدّم أنها يجوز أن تكون موصولة، ومصدرية على الخلاف في الترجيح، وقد قالوا بجواز الوجهين على الاحتمالين، كما صرّح به أبو البقاء رحمه الله واعترض عليه أبو حيان بأت على الموصولية خطا! لعدم العائد على ما من تلك الجملة، فيصير التقدير، ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ و. هو كلام غير منتظم وكذا على المصدرية على القول باسميتها، وأمّا على مذهب الجمهور، فهو سائغ وقيل عليه إنّ لزوم الضمير هنا غير مسفم، وأنّ النحاة لم يذكروا وصمل ما! المصدرية بالجملة الشرطتة فتأمل. قوله: (أو يقول) واذا خلصت الماضي للاستقبال، فلذا حسن عطف الماضي على المضارع في الوجهين إلا أنه على هذا لا محل لهذه الجلة لعطفها على الصلة، وفي الكشاف الوجه الأوّل أوجه وتقديم المصنف له يشعر بموافقته، وإن احتمل عدم التصريح لأنه ذهب إلى التساوي بينهما لما سيأتي، وقال قدّس سرّه: تبعا لمن قبله من الشراح وجه الأوجهية قربه في إفادته تسبب الفساد للعذاب، فيدل على صحته ووجوب الاحتراز عنه كالكذب، ولخلوّه عن تخلل ابي ن أو الاستئناف، وما يتعلق به بين أجزاء الصلة أو الصفة، وقد يرجح الثاني بكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وافادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا، ودلالتها على لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها.
(أقول) هذا مناف لما قدّمه قبله من قوله: إنه جعل عذابهم مسبباً لكذبهم رمزاً إلى قبح الكذب حيث خص بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه مع كثرتها، وفيه تخييل أنّ لحوق العذاب بهم، إنما كان لأجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المقتصرة على ذكره واختار لفظ التخييل بناء على أنّ السامع يعلم أنّ ذلك اللحوق لجهات كثيرة، وأنّ الاقتصار على ذكره رمز إلى سماجته وتنفير عن ارتكابه كما سيأتي، ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في
حيز صلة الموعول الواقع سبباً إذ المعنى في قولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ إنكار اذعائهم أنّ ما نسب لهم منه صلاح، وهو عناد واصرار على الفساد، والإصرار على ذلك فساد واثم، فلا وجه لما قيل عليه من أنّ العطف على يكذبون يقتضي أن يكون المعنى، ولهم عذاب أليم بقولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض فيفيد تسبب هذا القول للعذاب لا تسبب الفساد له، وكذا ما قيل من أنه لا دلالة له على تسبب الفساد بل على تسبب الكذب، وهو قوله إنما نحن مصلحون، وأمّ تخلل ألا انهم هم المفسدون بين إذا قيل وإذا قيل وهما من أجزاء الصلة، فيرد على هذا ما ورد أوّلاً، فليس بشيء لمن له نظر سديد، وسيأتي تتمته نعم قوله ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ كذب فيؤل المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب لا غير، وهذا مما يأبى الأوجهية لأنه تأكيد لا يليق عطفه، وعطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر، وأمّا ما ذكر من ترجيح الثاني فيرد عليه أنه في المآل كذب كما أشرنا إليه، ولو سلم تغايرهما بالاعتبار وضم القيود، فهو جزء من الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وإنما يكون مستقلا على ما اختاره المدقق في الكشف حيث قال لو قيل إنه معطوف على. قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ﴾ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان، وكذبهم فيه أوّلا ثم لبيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال، وان لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية كان أرجح بحسب السياق، ونمط تعديد القبائح وهذا قريب مما اختاره صاحب البحر، وقال الذي نختاره أنه من عطف الجمل وأنّ هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب لأنها وما بعدها من تفاصيل الكذب، ونتائج التكذيب ألا ترى أنّ قولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وأنؤمن إلخ وقولهم آمنا كذب محض، فناسب جعلها جملا مستقلة لإظهار كذبهم ونفاقهم وتكثير ذمهم والردّ عليهم، وهذا أولى من جعلها صلة وجزءا من الكلام، لأنها لا تكون مقصودة لذاتها