فَقَدِ اهْتَدَوْا} ذكر لهم الهداية بالإقرار والاعتقاد بدون سائر الطاعات؛ بيانا لشرف الإيمان، وجلالة قدره، وعلو أمره، فإنّه إذا قوي لم يبطله نفس المخالفات، بل هو الذي يغلب، فيردّ إلى التوبة بعد التمادي في البطالات، وكما هدي اليوم إلى الإيمان يهدى غدا إلى الجنان. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ﴾. وذلك، أن المطيعين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقاهم. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا﴾، وتتلقّاهم الملائكة، وتبقى العصاة منفردين منقطعين في متاهات القيامة، ليس لهم نور الطاعات، ولا في حقهم استقبال الملائكة، فلا يهتدون السبيل، ولا يهديهم دليل.
وقرأ ابن هرمز ﴿من ربهم﴾ بضمّ الهاء، وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ذكره في «البحر».
فإن قلت: لم ذكر هدى هنا مع قوله أولا: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾؟
قلت: لأنّه ذكر هنا مع هدى فاعله بخلافه ثمّ. ذكره في فتح الرحمن. ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تكرير ﴿أُولئِكَ﴾ (١)؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به عن غيرهم، فكيف بهما، وتوسيط العطف بينهما؛ تنبيه على تغايرهما في الحقيقة لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا، بخلاف قوله: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾ فإنّ التسجيل بالغفلة، والتشبيه بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى، فلا تناسب الفصل.
وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر بالضمير: الدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره، فصفة الفلاح مقصورة عليهم، لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، ولا يلزم من هذا أن لا يكون ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ صفة أخرى غير الفلاح، فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس، حتى يلزم ذلك. أو ﴿هُمُ﴾ مبتدأ، و ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبره والجملة خبر