فاتفق المسلمون مع رسول الله - ﷺ - وعاهدهم، ثم إن المشركين نقضوا العهد، فأوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين، ونسب (١) البراءة إليهما من قبل أنَّه تشريع جديد شرعه الله تعالى، وأمر رسوله - ﷺ - بتنفيذه، ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين - وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد -؛ لأنه عقده بوصف كونه الإِمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقادة من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿براءةً﴾ بالنصب، قال ابن عطية: أي: الزموا، وفيه معنى الإغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءةً، قال البغوي: لمَّا خرج رسول الله - ﷺ - (٢) إلى تبوك.. كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودًا كانت بينهم وبين رسول الله - ﷺ -، فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير (٣): اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن له عهد دون أربعة أشهر فيكمَّل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهدٌ مؤقت.. فأجله إلى مدته مهما كانت؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ ولما سيأتي في الحديث "ومن كان بينه وبين رسول الله - ﷺ - عهدٌ.. فعهد إلى مدته" وهذا أحسن الأقوال وأقواها، واختاره ابن جرير رحمه الله اهـ.
رُوي (٤): أنَّ رسول الله - ﷺ - أراد أن يحجَّ سنة تسع، فقيل له: إن المشركين يحضرون الحج ويطوفون بالبيت عراة، فقال: "لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك"، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرًا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث
(٢) البغوي.
(٣) ابن كثير.
(٤) المراح.